لماذا لن ينجح تصدير الديموقراطية من أميركا للعرب؟
من غير المحتمل أن تنجح المساعي الأميركية لنقل البلاد العربية نحو الديموقراطية. لا بل إن من المرجح أن تتسبب بأذى كبير للعرب والديموقراطية، ولأميركا أيضا. هذه نتيجة غير مفاجئة لسياسات مبنية على حماسات عقيدية وعلى رؤى تغييرية كبرى ومتعصبة.
لكن لماذا لن تنجح مساعي الأميركيين لتصدير الديموقراطية إلى العرب؟ ليس لأن الأميركيين يكرهون العرب والمسلمين، هذا افتراض غير ضروري، وهو بعد غير صحيح في إطلاقه؛ ولا لأنهم غير جادين أو غير راغبين في الديموقراطية، هذا أيضا غير ضروري. لن ينجح تصدير الديموقراطية لأن أجندة الأميركيين متناقضة. يريدون الديموقراطية على ان تكون سياسات النظم العربية الديموقراطية غير متعارضة مع الأرجحية الأميركية الحاسمة في الشرق الأوسط، وعلى أن تشاركها حربها ضد «الإرهاب» دون نقاش، وعلى أن تمتنع عن إظهار تطلعات استقلالية، وعلى أن تقبل بأشكال متنوعة من الوجود الأميركي المباشر بما فيه القواعد العسكرية، وعلى أن تبقى إسرائيل اقوى من الدول العربية مجتمعة، وأن تنال معاملة تفضيلية في تقرير شكل السلام المحتمل بينها وبين العرب، وعلى ان تبقى السياسات النفطية ملائمة للأميركيين دون أن تفكر الدول المنتجة له بمقاربات أكثر استقلالية في مجال استخراج وتصدير ونقل النفط أو تحريك الأرصدة المالية لها في الغرب.
يحب الأميركيون أن ينعم العرب بالديموقراطية، لكنهم يحبون بقوة أكبر أشياء أخرى تفرغ الديموقراطية العتيدة من أي مضمون. كيف لأية حكومة عربية ديموقراطية، منتخبة شعبيا، أن تلتزم بالحدود الأميركية المشار إليها، والتي تعني عمليا أن السيادة العليا للأميركيين؟ ستواجه خيارا معضلا: إما ديموقراطية تحث على سياسات مستقلة وتحتاج إليها لتحوز ثقة مواطنيها، أو تبعية للأميركيين أقل ديموقراطية، إن لم نقل محمية بالديكتاتورية. ومصدر هذه المعضلة طبيعة السلطة الأميركية في الشرق الأوسط، وهي سلطة لا نتردد في وصفها بأنها ديكتاتورية ومحاسيبية في آن معا. ديكتاتورية من حيث أنها لا تقبل الحلول السياسية والتفاوضية والتسويات والتنازلات المتبادلة لما يطرأ من مشكلات مع دول المنطقة أو قواها السياسية والدينية، مفضلة الحلول العسكرية والأمنية. وهي محاسيبية مثل أكثر دول المنطقة من حيث أنها تفضل قوى موالية حتى لو كانت استبدادية وتوجهاتها الفكرية محافظة على قوى مستقلة حتى لو كانت حداثية وعلمانية. ديكتاتورية وزبائنية، الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ودون اعتبار لفكرتها عن نفسها ولفكرة بعض أنصارها المحليين، قوة شرق أوسطية أصيلة. ومثل جميع الديكتاتوريات الشرق أوسطية تركز واشنطن في يديها السلطة الإكراهية والقيم المشرعة معا. إنها تحوز حيال دول المنطقة سلطة هائلة، غير مقيدة أو غير دستورية. هذه السلطة ترغب بالديموقراطية على مستوى النيات الذاتية، لكن إطلاقها بالذات هو العائق الكبر أمام التحول الديموقراطي، بالنظر إلى أن الديموقراطية تعريفا نقيض السلطة المطلقة. باختصار، لدينا من الولايات المتحدة سلطة قمعية واعتباطية وغير خاضعة للمحاسبة وليس بحال حكما ديموقراطيا منتخبا أو حكيما. تكوين هذه السلطة وأجندتها تجعلها ضعيفة الالتزام حيال الديموقراطية.
لو افترضنا أنه جرت انتخابات حرة في بلد عربي مركزي مثل مصر أو سورية أو العراق، وحاولت الحكومة الجديدة ممارسة الحكم مستهدية بمصالح شعبها. فرصة ان لا ترتطم بالأميركيين محدودة، واحتمال أن لا يبدأ الأميركيون بالضغط عليها لتعديل سياساتها وضرب «المتطرفين» في صفوفها وإظهار مزيد من «الاعتدال» محدود أيضا. ومعلوم أنه في الانتخابات العراقية الأخيرة تدخل الأميركيون بطرق متعددة للحد من فرص فوز من اعتبروهم متشددين شيعة. إذا رفضت الحكومة المنتخبة الاستجابة للمطالب الأميركية من المحتمل جدا أن تتعرض لضغوط شديدة ومتنوّعة (ديبلوماسية، إعلامية، اقتصادية، أمنية..)، وهذا يضعفها ويتسبب في اقتران الديموقراطية بالهشاشة وعدم الاستقرار؛ أو قد تستجيب لها وتجد نفسها مضطرة لقمع خصومها الذي سيتهمونها بالتخلي عن مطالب شعبها وصيانة استقلال البلاد، وهو ما يعني التخلي عن الديموقراطية عمليا، رغم أن صوت الثناء عليها وتمجيدها سيصدح أكثر واكثر، ما يؤدي إلى تشويه سمعتها وتنفير الناس منها.
المعضلة مرة أخرى: ديموقراطية تتوجه نحو سياسات استقلالية أو تبعية محمية بالاستبداد. أقول سياسات استقلالية وليس معادية للأميركيين، سياسات معتدلة بالمعنى الحقيقي للكلمة. بل إن شرط سياسات معتدلة في المجال العربي والشرق أوسطي هو بروز دول مستقلة وقادرة على أن تقول لا لواشنطن. أما اعتقاد المقررين الأميركيين أن السياسات الاستقلالية في المنطقة معادية لهم أو موجهة حصرا ضدهم فهو اعتقاد متطرف، نابع من الطابع المتطرف وغير العقلاني للسلطة والمصالح الأميركية في الشرق الأوسط. وتشي معادلتهم بين الاعتدال والخضوع لهم بافتقارهم التام للاعتدال.
يسهم في ترسيخ التطرف الأميركي وتطبيعه ضعف وانكسار عين القوى العربية العقلانية المحتملة من أحزاب ومنظمات وسلطات أمام الأميركيين. أعني أيضا ضعف أشكال الاحتجاج الحديثة والعقلانية على الهيمنة الأميركية. القوى العقلانية دائمة التفكك إلى قسم يغلب الاحتجاج فيلتحق بالمقاومات غير الحديثة، وقسم يغلب الحداثة فيلتحق بالأميركيين. العراق يعرض بوفرة كلا النموذجين. الجمع بين الحداثة والمقاومة هو فرصة مجتمعاتنا في التوازن وإنتاج الاعتدال الحقيقي. والمفارقة التي يمكن أن يرصدها المراقب هي أن العلاقة العربية الأميركية لا تعثر على بر عقلاني ترسو إليه. فهي إما علاقة تبعية وخضوع وخوف من الأميركيين، أو علاقة عداء وتناحر. ليس هناك دول عربية صديقة للأميركيين، ليس هناك أحزاب أو منظمات عربية تدافع عن السياسة الأميركية، دون أن تكون مطعونة، بحق، في استقلاليتها ووطنيتها. التطرف الأميركي المتزايد (مقياسه الأصدق ارتقاء العلاقة الأميركية إسرائيل من مستوى المصالح إلى مستوى المبادئ إلى مستوى الحب الخالص بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001) لا ييسر عقلنة العلاقة وبناءها على شيء من الثقة. يريد كثيرون من العرب، أفرادا ومنظمات ودولا، تغيير هذا المنوال، لكن قدرتهم على التأثير عليه محدودة. قدرة الأميركيين أقوى بما لا يقاس، لكن ليس لديهم من الأسباب ما يدفعهم لتغيير نظام العلاقة هذا. و11 أيلول كان مناسبة لتحقيق قفزة في السلطة الأميركية في الشرق الأوسط وليس بداية الخطو نحو الديموقراطية. افتراض التطابق بين الأمرين غير ممكن دون تعريض مفهوم الديموقراطية لتحريف خطير يضعها في خدمة السلطة المطلقة.
مثل واشنطن، الأنظمة العربية تريد أشياء كثيرة، منها استعادة ما قد يكون لها من أراض محتلة، ومنها التنمية، ومنها الاستقلال الوطني، ومنها «الوحدة والحرية والاشتراكية»، بل منها الديموقراطية، لكن أقوى إرادتها مكرسة للخلود في السلطة وعدم التنازل عن شبر واحد أو ذرة رمل واحدة منها. بمنطقها الذاتي، تقود هذه الأولوية إلى إضعاف إرادات التحرير والتنمية والاستقلال... وإضفاء صفة نسبية مفرطة عليها. في المقابل، تقود الأولوية هذه إلى التماس رضا الناخب الحقيقي والسيد الأصيل في المنطقة، الذي «يصادف» أن يكون دوما بطلة الديموقراطية وقديستها في «الشرق الأوسط».
منقول
مع تحياتي
نور