يستحب استماع القراءة للآية الشريفة . وحكى ابن المنذر الإجماع على عدم وجوب الاستماع للقراءة في غير الصلاة والخطبة . وقد تكلم شيخ الإسلام رضي الله عنه على الخشوع وفضله , وذم قسوة القلب والغفلة , فقال إن قيل فخشوع القلب لما نزل من الحق واجب , قيل نعم لكن الناس فيه على قسمين مقتصد وسابق , والسابقون يختصون بالمستحبات , والمقتصدون الأبرار هم عموم المؤمنين المستحقين للجنة , ومن لم يكن من هؤلاء ولا هؤلاء فهو ظالم لنفسه .
والمروي عنه عليه الصلاة والسلام وعن الصحابة رضي الله عنهم عن استماعه إنما هو فيض الدموع , واقشعرار الجلود , ولين القلوب , كما قال الله تعالى { الله نزل أحسن الحديث كتابا } الآية . { وقرأ ابن مسعود عليه صلى الله عليه وسلم النساء فلما بلغ إلى قوله { وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } قال حسبك , فالتفت إليه وإذا عيناه تذرفان } . متفق عليه .
وأما الصعق الغشي ونحو ذلك فحدث في التابعين لقوة الوارد وضعف المورود عليه . والصحابة رضي الله عنهم لقوتهم وكمالهم لم يحدث فيهم .
قال في الآداب الكبرى : فأقدم من علمت هذا عنه الإمام الرباني من أعيان التابعين الكبار الربيع بن خثيم رحمه الله سمع ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا } فصعق , وكان قبل الظهر , فلم يفق إلى الليل , وكذا الإمام القاضي التابعي المتوسط زرارة بن أوفى رحمه الله تعالى قرأ في الصلاة فلما بلغ { فإذا نقر في الناقور } شهق فمات , وكان هذا الحال يحصل كثيرا للإمام علما وعملا الشيخ الإمام شيخ سيدنا الإمام أحمد يحيى بن سعيد القطان . وكان الإمام أحمد يقول لو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه دفعه يحيى . وحدث ذلك لغير هؤلاء , فمنهم الصادق في حاله ومنهم غير ذلك . ولعمري أن الصادق منهم عظيم القدر ; لأنه يدل على [ ص: 406 ] حضور قلب حي , وعلم معنى المسموع وقدره , واستشعار معنى المطلوب وفخامة أمره , لكن الحال الأول أكمل , والمتصف به أرقى وأفضل , فإنه يحصل لصاحبه ما يحصل لهؤلاء وأعظم , مع ثبات قوة جنانه ورسوخ بنيانه .
نعم كثر لا سيما في هذه الأزمان التزوير والتلبيس , وأكثر من ترى ممن يدعي ذلك في عصرنا إذا حققت في الإمعان عن حاله تلفيه من حزب أبي مرة إبليس , مع الدعوى العريضة , والقلوب الميتة أو المريضة , والجهل بالأوامر , وعدم معرفة الناهي الآمر , مع الرياء والسمعة , والجهل والبدعة , والتهافت على حطام الدنيا وقاذوراتها ولا تهافت الذباب , والحرص على العكوف على لذاتها والاختلاس لها ولا اختلاس الذئاب , وإطراق الرءوس عند سماع رقى الشيطان , وغفلة القلب عند حضور مجالس الذكر والقرآن . فالله يعاملنا بالصفح والغفران , ويثبتنا على الإسلام والإيمان , إنه ولي الإحسان .
وقال في الآداب الكبرى : روى النسائي أن أبا هريرة رضي الله عنه لما حدث بحديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار زفر زفرة وخر مغشيا عليه ثم ثانية ثم ثالثة ثم حدث به . والحديث في صحيح مسلم وغيره بدون هذه الزيادة , فإن صح فهو أول من علمت حدث له ذلك .
وذكر الحافظ ابن الأحصر فيمن روى عن الإمام أحمد في ترجمة إبراهيم بن عبد الله القلانسي قال قيل للإمام أحمد بن حنبل الصوفية يجلسون في المساجد بلا علم على سبيل التوكل , قال العلم أجلسهم , فقيل ليس مرادهم من الدنيا إلا كسرة خبز وخرقة , قال لا أعلم على وجه الأرض أقواما أفضل منهم , قيل إنهم يسمعون ويتواجدون عند القرآن فيحصل لبعضهم ما يحصل من الغشي والموت كما كان يحصل ليحيى بن سعيد القطان وعذره الإمام أحمد رضي الله عنهم , فلا مخالفة والله أعلم . انتهى .
فإن قلت أليس قد ذكر أبو طاهر المقدسي من حديث أنس وصاحب العوارف { أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد بحضرته رجل :
قد لسعت حية الهوى قلبي فلا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به
فإنه علتي وترياقي
قال فتواجد النبي صلى الله عليه وسلم وتواجد أصحابه رضي الله عنهم [ ص: 407 ] حتى سقط رداؤه عن منكبه , فلما فرغوا آوى كل واحد إلى مكانه , ثم قال عليه الصلاة والسلام ليس بكريم من يهتز عند السماع , ثم قسم رداءه على من حضر أربعمائة قطعة , فيكون أول من تواجد إمام المرسلين , ورسول رب العالمين , لا زيد وعمرو , ولا خالد وبكر } . قلت هذا حديث موضوع , وخبر باطل مصنوع , وكان واضعه عمار بن إسحاق ; لأن باقي رجاله لا يتصفون بالكذب والاختلاف . وقد قال الذهبي وغيره : هو مما يقطع بكذبه . وقال في تسهيل السبيل : ما اشتهر { أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد بين يديه : قد لسعت حية الهوى كبدي , وفي آخره فتواجد النبي صلى الله عليه وسلم حتى سقطت البردة عن كتفه فتقاسمها أهل الصفة وجعلوها رقعا في ثيابهم } , فكذب باتفاق أهل الحديث , لكن قد رواه بعضهم وهم من الأحاديث الموضوعة . قاله الزركشي , وسبقه لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية , وفي بعض ألفاظه أن الذي أنشد أبو محذورة .
قال صاحب تسهيل السبيل :
ما قيل أبو محذورة قد أنشدا بين يدي نبينا مهدي الهدى
قد لسعت يا قوم حية الهوى كبدي فلا راق لها ولا دوا
حتى تواجد النبي ذو العلا وسقطت بردته بين الملا
فقسمت قالوا على الأصحاب ورسمت للرقع في الثياب
فكل هذا كذب لا أصل له فقاتل الله الذي قد أصله
أبداه للجهال من لا يرعوي وإن روي يوما فبالوضع روي
فإن تكن مقلدا فقلد أهل الحديث من الحديث تهتدي
فكم وكم لجاهل الصوفية من بدع تشبه ذي القضية
يروونها لجاهل عن جاهل بصيغة الجزم مع التغافل
معتقدين أنهم أئمة هداة هدي لهوادي الأمة
لا سيما أرباب ذي الزوايا فما مزاياهم سوى الرزايا
إلى آخر الأبيات . والله ولي الإثبات .